هل هناك فرق بين دماغ من يدرس العلوم ومن يدرس الأدب والإنسانيات؟
لا شكّ في أنّ الفجوة كبيرةٌ بين من يدرس العلوم الطبيعية ومن يدرس العلوم الأدبية والإنسانية. في عام 1959 ألقى الفزيائي والروائي C. P. Snow محاضرةً شهيرةً بعنوان “الثقافتين” والّتي نشرها بعد ذلك في ورقةٍ بحثيّةٍ بعنوان “الثقافتين والنهضة العلمية” وصف فيها الأثر السلبيّ للفصل بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والأدبية وتأثير ذلك على المجتمع والنهضة. هناك مواضيع وأساسيات في كلا المجالين لا يجب أن تقتصر معرفتها على رواد ذلك المجال فقط وإنما يجب على الجميع أنْ يعرفها لأنّها تؤثر بشكلٍ مباشرٍ في حياتنا ومعرفتنا بما حولنا وإدراكنا له.
العلماء والباحثون وحتّى الطلاب في مجالات العلوم والأدب دائمًا ما يشعرون باختلافٍ وعدم توافقٍ فكريٍّ مع رفقائهم الذين يدرسون مجالًا مختلفًا عنهم، ووصل الأمر ببعض العلماء إلى الاعتقاد بأن عقولهم مختلفةٌ تمامًا من حيث التّكوين والتّركيب، وقد يكون هذا صحيحًا بحسب دراسةٍ جديدةٍ نشرها عالم الأعصاب الياباني Hikaru Takeuchi وزملاؤه والتي تحمل عنوان “ التركيب الدماغي لدارسي العلوم والإنسانيات“.
ذكر هيكارو في دراسته أنّ هناك مجموعةً من الاختلافات في بنية المخ لخريجي الكليات العلمية والأدبية، وجد هيكارو أنّ الّذين درسوا العلوم لديهم نسبةٌ أكبر من المادّة الرّمادية في قشرة الفصّ الجبهيّ الأوسط، بينما يمتلك من درسوا الموادّ الإنسانية والأدبية كثافةً أكبر للمادّة البيضاء حول الحصين الأيمن. حصل هيكارو على هذه البيانات بعد دراسة 491 طالبًا مختلفين من حيث العمر والنّوع وحجم المخ، ولكن ما الذي قد تعنيه هذه النتائج؟
القائمون على الدراسة اعتمدوا في تحليل هذه البيانات على ضوء نظريّة Empathizing- Systematizing الّتي وضعها العالم Simon Baron وتعرف اختصارًا بـE-S theory، وفقًا لهذه النّظريّة يُصنّف الناس إلى نوعين، النّوع الأول Empathizing وهو نوعٌ قادرٌ على إدراك وفهم مشاعر وأفكار الآخرين والاستجابة لها بمشاعرٍ مناسبةٍ. أمّا النّوع الثاني Systemizing وهو نوعٌ يتّبع قوانين محدّدةٍ في حياته ويعتمد عليها في التعامل مع الأخرين.
قبل التّطرق لمعنى النّتائج من الجدير بالذّكر أن العلوم الإنسانيّة تعتمد على المجتمع وعلى ما نتج عنه وعن البيئة، أمّا العلوم الطبيعية فهي تعتمد في الأساس على الأفكار التجريديّة والتّجارب ومنعزلةٌ عن المجتمع ولا تعتبره عاملًا مؤثّرًا في النّتائج.
ذكر فريق الدّراسة أن افتراضهم أنّ هناك اختلافًا في تركيب الدماغ لطلاب العلوم مقارنةً بطلاب الأدب تم إثباته، والنّتائج الّتي حصلنا عليها لطلاب العلوم تشبه إلى حدٍّ ما النّتائج الّتي ظهرت خلال دراسة الأشخاص المتوحدين (لا يقصد الشكل المرضي للتوحد ولكنه يقصد التشابه من حيث التعامل مع المجتمع من حولهم)، وأنّ نسبة المادة الرمادية المرتفعة الّتي تم ملاحظتها في طلاب العلوم مصاحبةٌ لمستوً أقلّ من التعاطف أو المشاعر (خاصةً المشاعر المتعلقة بالغير)
على الرّغم من أنّ هذه الدّراسة مدعّمةٌ بنتائج محددة وواضحة ومستقاة من عيّنة كبيرة ومتنوّعة من الأشخاص، إلّا أّنها في النهاية مجرّد دراسةٍ يمكن أن يظهر في المستقبل ما ينفيها أو يؤكّدها بشكلٍ حاسمٍ، ولحين حدوث ذلك وفي ضوء هذه النّظريّة يجب أن نقرّ بوجود اختلافٍ لا يستهان به بين دماغ طلبة العلوم الطّبيعيّة والعلوم الإنسانيّة والأدبية ولا سيما من تخرّج منهم ومارس العمل في ذات المجال لسنين، وهذا الاختلاف في الواقع منطقيٌّ نوعًا ما، فالطّريقة الّتي تتعامل بها كل فئة مع ما تدرسه تؤثّر بشكلٍ كبيرٍ في تطوّر الدّماغ، فأولئك الّذين يدرسون العلوم الطبيعية مثل الفيزياء والرياضيات نجدهم يتعاملون مع قوانين ونظريات تحكم تفكيرهم وتجردهم من أيّ مشاعر فينطبع ذلك في سلوكهم بشكلٍ نسبيٍّ قد يختلف من شخصٍ لآخر ليصبح صفةً مميّزةً لهم. أمّا الّذين يدرسون العلوم الإنسانية والأدبية فهم في الواقع يتعاملون مع الناس والمجتمع بشكلٍ مباشرٍ من خلال دراستهم للتّاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع، فتتطوّر قدراتهم على التّواصل مع الآخرين مع الوقت بشكلٍ أفضل.